وائل السمرى يكتب: بحر البقر فى أسيوط.. منذ
ثلاثة وأربعين عاما مات ثلاثون طفلا بصواريخ الصهاينة وقنابلهم.. واليوم
مات 51 طفلا بأيدينا.. فأين نهرب من هذا العار؟ السبت، 17 نوفمبر 2012 - 13:58
حادث القطار
فى الساعة التاسعة وعشرين دقيقة من صباح يوم الأربعاء 8 إبريل
1970م، دمرت القوات الهمجية الإسرائيلية مدرسة بحر البقر الابتدائية فى
الشرقية، بصاروخين وخمس قنابل تمت تسوية المدرسة بالأرض، ثلاثين روحا يافعة
صعدت إلى بارئها، بينما أصيب خمسين طفلا آخر، بعضهم عاش بعاهته، وبعضهم
تجرع الألم يوما بعد يوم حتى كتب الله له الشفاء، بينما نجا من الاعتداء
اللإنسانى حوالى سبعين طفلا، لكن نجاتهم لم تكن مكتملة، فقد عاشوا بقية
حياتهم أسرى لمشاهد التدمير التى حفرت فى ذاكرتهم وجعا مزمنا، عاشوا أسرى
لمشاهد الدماء وهى تلطخ أعينهم فتكتسى حياتهم باللون الأحمر الكابى، وبينما
عاش شعب مصر بعد هذه الواقعة المفجعة آلاما لا حصر لها، ضاعفها خوفهم
اليومى على أبنائهم كلما راحوا إلى المدرسة أو غدوا، ثلاث سنوات عاشها شعب
مصر فى الحسرة والكمد والخوف والإحباط، إذ لم تخفف من آثار تلك المذبحة إلا
حرب أكتوبر المجيدة التى أخذت بالثأر وأزالت الخوف ورفعت الرأس، فترى من
سيخفف من هول كارثة اليوم، وقد زهقت أرواح خمسين طفلا جراء إهمالنا
وتراخينا وفسادنا، بينما يعيش بين الحياة والموت عشرة أطفال آخرين، تاركين
فى أرواحنا ندبة ووخزا وغضبا لا نعرف له مصيرا.
خمسون شمعة أجهضت، خمسون حلما أطفئ، خمسون أملا قتل، خمسون عين عميت،
وخمسون شمسا ذبلت، ولا تدل هذه الفاجعة إلا على اهتراء الدولة المصرية
بأكملها سواء كان الخطأ لعامل بسيط أو لمسئول كبير، عشرات الأطفال - أطفال
يا خونة – راحوا ضحية إهمالكم وصراعاتكم على السلطة والمال والجاه
والتمكين، فلو بذل رئيسنا عشر مجهوده الوافر على تمكين جماعته من مفاصل
الدولة من أجل إصلاح الفساد القائم لما رأينا كل يوم فاجعة، ولو اهتم
مشايخنا بالأمر بالمعروف حقا والنهى عن المنكر صدقا لما افترستنا الطرق
وحصدت أرواحنا القضبان، ولو شغل سياسيينا أنفسهم ولو قليلا بتقديم رؤى
سياسية عملية لإصلاح المنظومة الخربة لما تسابقت القطارات فى حصد أرواح
المصريين ما بين الفيوم وأسيوط ومطروح وكفر الشيخ.
أشعر وكأن الدماء تتقافز من حلقى، أحاول أن أخيل صرخات أطفالنا وهم بين
أنياب القضبان، أحاول أن أرى ما دار بخيالهم، أحاول أن أسمع كلماتهم، أن
أشعر بآلامهم، يكسو الدم كل المشاهد، تفجعنى الصدمة، لا أحتمل هول ما أرى،
لا يخرجنى من دوامة الأسى إلا رائحة تصريحات القيادى الإخوانى عصام العريان
الكريهة التى استبدلت دوامة الغضب بدوامة الأسى، لا أعرف كيف سولت نفسه أن
يتباهى بتقديم وزير النقل استقالتهم، ولا أعرف كيف عمت عينه المناصب
فاستغل الحادثة وطالب بعودة مجلس الشعب الذى وعدته الجماعة برئاسته إذا ما
عاد أو حصل حزبه على الأغلبية البرلمانية، مندهشا أسمع وأرى، ثم أتيقن من
أنه لولا وجود أمثال العريان لما غرقنا فى "بحر البقر".
كلنا مسئولون عن تلك الفاجعة، كلنا مذنبون فى حق أطفالنا، ولا أستطيع أن
أنظر فى عين أحدنا إلا ورأيت الدماء تنفر منها، نحن جناة يا سادة، قتلنا
ماضينا بتبديد هويتنا المصرية الأصيلة وبتزييف تاريخنا وتحريفه، وقتلنا
حاضرنا بالصراعات البدائية التافهة وإزهاق روح الإنسانية فينا، وقتلنا
مستقبلنا بترك أطفالنا نهيبة الخنوع والخسة والنذالة والإهمال، فلنستعد
كلنا إلى المحاكمة التى لن تبقى ولن تذر.