قرية السمطا.. ممنوع دخول الأطباء
على بعد كيلومترات من مدينة قنا تقع قرية السمطا.. هنا قرى ونجوع لا يعلم عنها المسئولون شيئا.. شوارع ضيقة لا تشم بها سوى الأتربة المتناثرة فى الجو والروائح الكريهة، لا يوجد صرف صحى، منازل قد تكون معدومة، علامات البلطجة ظاهرة على معظم من تقابلهم أثناء تجولك بالقرية.
انتشر مرض الجذام بين عائلات كثيرة، ولا أحد يعرف عنهم شيئا، طلبت من أحد الشباب الذى ساعدنى فى دخول القرية لأنه ممنوع دخول الغرباء، أن نقابل العائلات فاصطحبنا إلى أزقة ضيقة خانقة، ودخلنا منزلا مبنيا بالطوب اللبن، وجدنا طفلا لدية 8 سنوات يجلس فوق أريكة وعينيه بهما احمرار شديد وأصابع يده متآكلة من الأطراف، اقتربت منه فبدأ يبتعد حتى وصل لآخر الحائط الذى تخرج منه براغيث صغيرة.. طلبت منه الحديث معى فرفض.. وبدأ يصرخ «غورى غورى».. تدخلت الأم التى بدت عليها علامات المرض فى وجهها وقدميها قائلة «يابنتى احنا بقالنا سنين محدش دخل عندنا وهو نفسيا تعبان».
تروى لنا الأم قصة ابنها المريض الذى امتنع عن الذهاب للمدرسة منذ عام تجنبا لمخاوف زملائه من التعامل معه، ومعلمته التى تسببت فى عقدة نفسية للطفل الصغير بسبب جلوسه فى مقعد وحده بجوار باب الفصل وعدم ملامستها لكراسته وكتبه ورفض التعامل معه.. وتستكمل الأم مأساة ابنها: لما المرض ظهر على ابنى «ما كنش معدى» وكان فى بدايته لكن بسبب قسوة التعامل معه ترك المدرسة وأصبح جليس المنزل مثل باقى أسرته.
وتواصل الأم: ننتمى لأسرة فقيرة، لا تجد من يعولها إلا ببعض فتات الجيران.. لا نملك ثمن المواصلات كى نصل إلى مستشفى الجذام بقنا.. وتطالب بإنشاء مستعمرة جذام لإبقاء المرضى بها حتى يتم شفاؤهم نهائيا من المرض.
على بعد أمتار، وجدنا عم «محمد. غ» يبلغ من العمر 70 عاما، وآثار الجذام تظهر على قدمه المتآكلة التى يعلوها الذباب يمص المتبقى من الدم الملوث على قدم الرجل الذى يعمل ببيع السجائر.
المرض، والشعور بأنهم منبوذون، وقسوة الأهل، حولتهم إلى قنابل موقوتة تنتظر من يفجرها.. وأثناء مرورى بالقرية وجدت امرأة خمسينية تهرول وراء صبى صغير لتضربه بعد أن قام بمعايرتها.
قبل أن تزور المرضى، يجب أن تدرب عينيك على تلقى الصدمات لأنك سترى وجوها غير واضحة المعالم قد تصيبك بالرعب، وتتحدث مع بقايا حية لأشخاص يعيشون بلا هدف سوى انتظار الموت.
مدينة قوص
أكد الدكتور شعبان محمد إبراهيم مدير مستشفى قوص للجذام أن 5% لديهم قابلية لاستقبال العدوى نتيجة معاشرة المريض، ورزاز العطاس، موضحا أن أعراض العدوى تبدأ فى تنميل أعصابه وظهور بقع كبيرة فى الأنف تؤدى إلى نزيف حاد «بى اتش».
وأشار إبراهيم إلى أن مستشفى قوص تقوم بالكشف الدورى على المخالطين للمريض كل 6 أشهر، خاصة من يصاب بالجذام «العقدى»، مشيرا إلى أن وزارة الصحة لا تقدم للمريض سوى شريط دواء شهريا.
ورفض مدير مستشفى قوص إمدادنا بأية معلومات حول الأعداد الحقيقية للمرضى داخل المدينة، مؤكدا أن هناك تعليمات من وزارة الصحة بعدم إطلاع أحد على أعداد مرض الجذام فى قنا.
وعن إمكانية نقل العدوى للإنسان عن طريق الأتربة خاصة بعد اغلاق مستعمرة الجذام بالمحافظة وإنشاء إدارة للصيدلة مكانها، أكد إبراهيم أنه من الممكن نقل العدوى عن طريق التلامس بالتراب الذى خالطه المريض.
لعبت الصدفة دورا مهما فى مقابلتى بأحد الأطباء الذين كانوا يعملون بوحدة قوص سابقا، وطلب عدم نشر اسمه، أكد أن عدد الحالات فى قوص وصل إلى 2992 حالة حتى أبريل 2013، واصطحبنا الرجل إلى إحدى العائلات التى أصيبت بالكامل بالمرض فى مدينة قوص، ونظرا لتأخر حالاتهم رفضت الوحدة الصحية التعامل مع اثنين من أفراد العائلة حيث بلغا من العمر 75 عاما.
التقينا «أم ناصر»، ربة منزل ومريضة منذ 3 سنوات قالت «المرض من عند الله، ولكننى أشعر بالضيق وأتمنى الموت لاشمئزاز بعض أفراد أسرتى عندما ينظرون إلى يدى ووجهى ولم تفلح جهود العلاج معى».
ويواصل الزوج محمد حسين الذى كان يعمل موظفا بالمحليات: نشعر بالكآبة والعزلة النفسية بسبب نظرات أقرب الناس إلينا، فمثلا، زوجتى أهلها تركوها، ولم يسألوا عنها إلا من خلال التليفون خوفا من انتقال العدوى لهم.
وأكد الدكتور ممدوح أبو القاسم، وكيل وزارة الصحة بقنا، أن هناك إحصائيات رسمية يتم إرسالها لوزارة الصحة سنويا، مشيرا إلى أن مرض الجذام لا تظهر أعراضه مباشرة على المريض إلا بعد فترة، تماما مثل الإيدز وغيره من الأوبئة، إذ يكتشفه المريض بعد أن يخترقه تماما كى يتركه بنزيف وتشوهات فى جسده وتتآكل معه أطراف يديه وقدميه، ليزيد ضغط المجتمع الذى ينفر منه.
وأشار أبوالقاسم إلى أنه نظرا لعدم الوعى الصحى لدى المرضى فى القرى فإن أعداد المصابين تتزايد، مؤكدا أنه كانت توجد مستعمرة لمرضى الجذام بقنا قديما وتم إغلاقها بعد رفض المرضى الإبقاء داخلها بسبب مخاوف المريض من إعلانه عن مرضه ونظرة المجتمع الصعيدى له.
وفى وحدة أرمنت، يوجد 200 مصاب، منهم 4 تم احتجازهم بالمستشفى نظرا لتدهور حالتهم، بالإضافة إلى 8 حالات تتردد على المستشفى للغيار على الجروح والقرح المنتشرة بجسدهم.
إسنا
صيدلى بوحدة الجذام بإسنا رفض ذكر اسمه أكد أن هناك 3 آلاف و146 حالة بإسنا تتلقى العلاج، ولم يتم الإعلان إلا عن عدد محدود، نظرا لعدم إثارة مسألة المرض إعلاميا، مشيرا إلى أن عدم الإعلان عن الأعداد الحقيقة يؤدى إلى عواقب وخيمة، خاصة مع عدم علاج المرض فى مرحلته الأولى.
من جانبه أكد سميح سيد جلال، رئيس وحدة مكافحة الجذام بوزارة الصحة، أنه لا توجد سوى 23 حالة فقط فى قنا، وبمواجهته بالإحصائيات الخاصة بمستشفى قنا طلب منى عدم النشر.
قابلت الدكتورة منى درويش، طبيبة بوحدة الجذام بوزارة الصحة، بعد أن فوضها رئيس الوحدة بالتحدث معى، رفضت إطلاعى على أية تفاصيل، ورفضت الإدلاء بأى تصريحات خاصة بالأعداد المتزايدة للمرضى، لكنها اعترفت أن هناك أسرا كاملة مصابة بالمرض نتيجة العدوى فى نجع حمادى وقنا وإسنا، مشيرة إلى أن العلاج توفره منظمة الصحة العالمية شهريا وحسب احتياج الوزارة له.
وأكدت درويش أن هناك حالات تم شفاؤها نهائيا من المرض نتيجة تلقى العلاج بشكل منتظم خلال المدة المحددة له، خاصة إذا اكتشف المرض مبكرا خلال الـ 15 يوما الأولى للعدوى.
وأضافت درويش: وزارة الصحة تقوم بعمل مسح طبى كل فترة فى قرى الصعيد التى يتنشر بها المرض، لكن هناك بعض القرى والأسر ترفض التعامل معنا، رغم علمنا بأنهم مصابون بالجذام.
وعن إصرار الوزارة على الموافقة لجمعية كاريتاس بعمل مشاريع للمرضى فيها اختلاط بالمواطنين قالت درويش: العزلة من الممكن أن تدمرهم نفسيا، مشيرة إلى أن المرض غير معد، وأن الصيادلة يتعاملون بالفعل مع المرضى بشكل قد يدمرهم نفسيا، لذلك سوف نقوم بعقد ندوات وحملات توعية للصيادلة داخل مستشفيات الجذام الفترة المقبلة لتوعيتهم أن المرض غير معد، وكيفية التعامل مع المريض بشكل لا يؤدى إلى تدمير نفسيته.
كان المعهد القومى للصحة بأمريكا قد أجرى دراسة عن إمكانية انتقال مرض الجذام من خلال التربة، وأثبتت الدراسات أن ثلث المصابين لم يتم التعرف على طريقة انتقال المرض إليهم، وبعد أخذ 80 عينة تربة من مناطق كانت وبائية تبين بالتحليل أن هناك 35% من تلك العينات يحمل الميكروب، وفى تجربة أخرى تم فيها أخذ 90 عينة من المياه الموجودة بمنازل المصابين أو بالأماكن المحيطة بهم تبين أن 24 فى المائة من هذه العينات يحمل الميكروب.
من جانبه أكد محافظ قنا، اللواء عبدالحميد الهجان، عدم علمه بهذه الأرقام، مؤكدا أنه فى حالة وجود تستر من الأطباء العاملين بمستشفيات ووحدات الجلدية بالمحافظة ستتم إحالتهم للتحقيق الفورى واتخاذ جميع الإجراءات العلاجية والوقائية للمرضى ولأسرهم.
وأشار المحافظ إلى أنه فى حالة طلب وزارة الصحة بناء مستعمرة لهم سوف يتم توفير المكان الذى يحتاج له المرضى مع إلزام الأطباء بعمل مسح شامل لأسر المرضى لاكتشاف الحالات التى أصيبت وانتقلت اليها العدوى وتوفير العلاج الذى توفره منظمة الصحة لهم.
يرفضون الحديث
وفى تصريحات صحفية للدكتور سليم فخرى، مسئول مكافحة الجذام بالأقصر، أصر على أن عدد المصابين بالجذام فى المحافظة يصل إلى 20 حالة فقط، مضيفا أن متوسط الإصابة فى الشهر من حالة إلى 3 حالات، وفى بعض الأحيان تنعدم الإصابة.
وحول زيادة أعداد الوافدين إلى مستشفى الجذام، فى مركز «إسنا»، أكد «فخرى» أن المركز يعتبر الأعلى فى الإصابات على مستوى المحافظة، موضحا أن الأهالى أصبح لديهم الوعى ويتوجهون للمستشفى عقب ظهور أى حالة، وبينها حالات تكون غير مصابة.
وأوضح مسئول مكافحة الجذام بالأقصر، أن التلامس مع المريض والتعايش معه يؤديان إلى إصابة من حوله بالمرض.