عن صهيب رضي الله عنه قال : "
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى همس شيئا لا أفهمه ولا يخبرنا به ، فقال يوما : ( أفطنتم لي ؟ ) ، قلنا :
نعم ، قال : ( إني ذكرتُ نبياً من الأنبياء أعطي جنوداً من قومه ، فقال :
من يكافئ هؤلاء ؟ أو من يقوم لهؤلاء ؟ - أو كلمة نحو ذلك - ، فأوحي إليه :
أن اختر لقومك إحدى ثلاث : أما أن نُسلّط عليهم عدواً من غيرهم ، أو الجوع ،
أو الموت ، فاستشار قومه في ذلك ، فقالوا : أنت نبي الله ، فكل ذلك إليك ،
خِرْ لنا ، فقام إلى الصلاة - وكانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة - فصلّى
ما شاء الله ثم قال : أي رب ، أما عدوٌّ من غيرهم فلا ، أو الجوع فلا ،
ولكن الموت : فسلّط عليهم الموت ، فمات منهم سبعون ألفا ، فهمسي الذي ترون
أني أقول : اللهم بك أقاتل ، وبك أصاول ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) "
رواه أحمد
معاني المفردات أفطنتم لي : أي هل أدركتم ما أفعله ؟
من يكافئ هؤلاء : أي من يساويهم منزلة ، ومن يقدر على قتالهم ؟
خِرْ لنا : اختر لنا
وبك أصاول : أي بك أغلب أعدائي
تفاصيل القصّة لو رأينا سدّا منيعاً عالي البنيان ، قويّ الأركان ،
قادراً على احتواء المقادير الضّخمة من مياه الأمطار والسيول ، ثم دبّ
الوهن في ذلك السدّ وظهرت الشقوق في بعض نواحيه ، فأُهمل وغُضّ الطرفُ عنه ،
حتى اتسع الصدع وازداد ، ثم جاءت اللحظة التي انهار فيها السدّ على علوّه
وشموخه ، لأجل ذلك الخلل في بدايته .
إنه تصويرٌ دقيقٌ لمرض العجب ، ذلك الداء العضال
والشهوة الخفيّة ، حين تغفل النفس للحظاتٍ عن التجرّد لله ، ونسبة الفضل
إليه ، وتوثيق الصلة به ، والاعتماد التامّ عليه ، مع ما فيه من اغترارٍ
بالأسباب المادّية ، واعتزازٍ بها ، والتفاتٍ نحوها ، ما يكون سبباً في
هلاك صاحبها وخسرانه .
ولأجل حماية المجتمع الإسلامي من أن يتأثّر بهذه الآفة
الخطيرة ، حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعالج هذه القضيّة بأسلوب
قصصيّ بالغ التأثير ، وذلك بعد أحداث يوم حنين ، حينما أوشكت الهزيمة أن
تحلّ بالمسلمين .
والقصّة تتعلّق بأمّة سابقة ، تربّت في أفنان العزّة
والمنعة حتى رسخت جذورها ، وقويت شوكتها ، وبلغت سمعتها القاصي والداني ،
وأصبحت أمّة عظيمة مرهوبة الجانب ، يحسب لها أعداؤها ألف حساب .
وأمام تلك الأبّهة والعظمة ، لم يستطع النبي الذي بُعث
في تلك الأمة أن يمنع نفسه من النظر إلى قومه نظرة إعجاب وانبهار ، عبّر
عنهما لسانه بقوله : ( من يكافئ هؤلاء ؟ ) ، وهل خُلقت أمّة قادرة على
المواجهة والصمود أمام جيوشها وعتادها ؟ .
لحظة إعجابٍ أردفتها العقوبة الإلهيّة العاجلة ، فقد
أوحى الله إلى ذلك النبيّ أن يختار واحدة من ثلاث : إما أن تغشاهم أمّة من
الأمم المعادية فتتسلّط عليهم وتذلّ أعناقهم ، وإما تحيق بهم المجاعة التي
تضعف قواهم وتكسر شوكتهم ، أو ينزل بهم الموت ويقضي عليهم.
ولأنّ القرار مصيريّ يتعلّق بالجميع ، لم ينفرد هذا
النبي بالاختيار ، حيث أبلغ قومه بحقيقة الوضع وطلب منهم المشوره ، لكنّهم
أوكلوا الأمر إليه ، ثقةً منهم برأيه .
وفزع النبي الكريم إلى الصلاة فهي خير زادٍ في النوائب
والملمّات ، فصلّى ما شاء الله له أن يُصلّي ، يلتمس التوفيق من الله جلّ
جلاله ، ويرجو الهداية إلى الصواب ، حتى اتضحت له ملامح كلّ خيار ، وما
يترتّب عليه من الآثار.
أما تسليط الأعداء عليهم ، فذلّة ومهانة لا يرضاها
نبيّ لأمّته ، وأمّا الجوع ، فعذابٌ شديد قد يؤول إلى طمع العدوّ فيهم ،
وهذا ما لا يريده ، فبقي الخيار الثالث ، فالموت أمرٌ مكتوب على كلّ إنسان
مهما طال به الزمن.
ويحيق الموت بتلك الأمّة ، ليحصد في ليلةٍ واحدة أرواح
ما يزيد عن سبعين ألف نفس ، ويترك وراءه يبوتاً تزأر فيها الرياح ، وجثثاً
هامدة ، كأن لم تغن بالأمس .
وكلّما مرّت ذكرى هذه القصّة الأليمة في فؤاد رسول
الله – صلى الله عليه وسلم - ، لهج لسانه بالبراءة من كلّ حولٍ وقوّةٍ سوى
الله عزّ وجل ، خوفاً على أمته أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم : (اللهم بك
أقاتل ، وبك أصاول ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) .
وقفات مع القصّة ألفاظ الحديث النبوي تنطق بالكثير من الدروس البليغة
والحكم العظيمة ، يستوقفنا في مبدئها قول الصحابيّ الجليل صهيب رضي الله
عنه : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى همس شيئا لا أفهمه
ولا يخبرنا به " ، فهو يدلّ على المراقبة الدائمة التي كان يفعلها الصحابة
رضوان الله عليهم لحركاته نبيّهم عليه الصلاة والسلام وسكناته ، ومنطقه
وسكوته ، ليقتدوا به ويأتسوا بأفعاله ، ولهذا استحقّ ذلك الجيل المنزلة
العالية والتزكية البالغة من الله تعالى : {
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } (
لفتح : 29 ) .
وإذا كان الصحابة على قدرٍ عالٍ من الشغف بالعلم
والنهم للتعلّم ، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما كان يكتم عنهم شيئاً
يقرّبهم إلى الله ، ويبدعهم عن النار ، ويفيدهم في دينهم ودنياهم .
وتدلّ القصّة على خطر الإعجاب بالنفس ، والركون إلى
الأسباب الدنيويّة ، وما خبر يوم حنينٍ عنّا ببعيد ، يوم أُعجب المؤمنون
بكثرتهم وعددهم – وكانوا اثني عشر ألفاً – فقالوا : " لن نُغلب اليوم من
قلّة " ، ونسوا أن يستحضروا أسباب النصر الحقيقيّة ، فأوكلهم الله إلى
أنفسهم ، وكادوا أن يُغلبوا ، لولا نزول السكينة الإلهيّة على المؤمنين في
ساحة المعركة ، ولولا أن جاء المدد من الله بالملائكة الكرام ، فكان لهم
ذلك أعظم درس .
ومن دلالات القصّة أيضا : أن العقوبة قد تحلّ ،
والعذاب قد ينزل ، والهزيمة قد تصيب المؤمنين ، لا لأسبابٍ ظاهرة ، ومعاصٍ
واضحة ، ولكن لأسبابٍ خفيّة وعوامل داخليّة لا يُدركها سوى أرباب العقول
الراجحة .
ونختم بفائدة أخرى دلّ عليها الحديث : وهو أن من شأن
المؤمنين اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى حال الشدائد والكرب ، وحال الحيرة
والتردّد ، كي تنجلي عنهم الشدّة ، ويستبين لهم الرأي الرشيد ، والاختيار
السديد .